
تكاد كرة المضرب أن تكون الرياضة البارزة الوحيدة التي يشارك فيها الرجال والنساء في بطولات مشتركة عديدة، وتضاهي فيها نجومية بعض اللاعبات ومدخولهن المادي ونسب مشاهدة مبارياتهن تلك التي يحظى بها اللاعبون الرجال، بل وتفوقها أحياناً.
لا شك في أن “الكرة الصفراء” خَطت أشواطاً متقدّمة على صعيد تحقيق المساواة بين اللاعبين واللاعبات، خاصة إذا ما قورنت برياضات مهمة أخرى ككرة القدم وكرة السلة والغولف. ولعل التجسيد الأوضح لهذا التقدم هو موافقة البطولات الأربع الكبرى في اللعبة، المعروفة ببطولات “الغراند سلام”، على منح الرجال والسيدات جوائز مالية متساوية.
كانت أولى البطولات الكبرى التي أقرّت المساواة في الجوائز المالية بين الرجال والسيدات هي بطولة الولايات المتحدة المفتوحة للتنس في العام 1973، أي بعد خمسة أعوام فقط على دخول اللعبة عصرها الاحترافي. ولم تحذُ بطولة أستراليا المفتوحة في مدينة ميلبورن حذوها إلا بعد 28 عاماً، تلتها دورة فرنسا المفتوحة، المقامة على الملاعب الترابية في العاصمة الفرنسية باريس، في العام 2006. أما بطولة ويمبلدون المتّسمة بعراقتها الضاربة في التاريخ ونزعتها “المحافظة” فقد كانت آخر البطولات الكبرى انصياعاً إلى مبدأ المساواة المادية، وذلك في العام 2007. لم تتحقق المساواة الجندرية في الجوائز المالية بسهولة، بل جاءت بعد نضال مضنٍ خاضه اتحاد لاعبات التنس المحترفات وقادته بعض اللاعبات، كانت الريادية فيهن الأسطورة بيلي جين كينغ خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
وفي هذا السياق تبرز الكلمة التي ارتجلتها البطلة الأميركية الأفريقية فينوس ويليامز أثناء اجتماع حضره ممثّلون عن البطولات الأربع الكبرى عُقد في أروقة ويمبلدون في العام 2005. كانت فينوس هي اللاعبة الوحيدة التي شاركت في الاجتماع رغم تحضيراتها في ذلك العام لخوض المباراة النهائية لويمبلدون التي كانت ستجري بعد يوم واحد فقط، ووجهت حينها خطاباً جريئاً أكّدت فيه على حق اللاعبات بالحصول على جوائز مالية متساوية. وقد حمّلت كلمتها رسائل سياسية نسوية أقوى وأكثر جذريةً من معظم الخطابات السطحية والمتخمة بالشعاراتية التي نسمعها في اجتماعات الأمم المتحدة أو البرلمانات حول “تمكين المرأة”. وبعد يوم واحد فقط، تمكنت فينوس من هزيمة مواطنتها لينزاي دافنبورت.
كانت كلمة فينوس في قاعة المؤتمرات، ومن ثم المستوى المميز الذي قدمته هي ودافنبورت على أرض الملعب، أبلغ رد على كل من يزعمون أن النساء غير جديرات بالجوائز المالية المتساوية، معلّلين ذلك بعدة حجج واهية من بينها أن مباريات النساء أقصر أو أقل جودة وتنافساً وجذباً للمتفرّجين. وجميع هذه المزاعم، وإنْ صحت في بعض الأحيان، لا تتعدى في واقع الأمر كونها محاولات للتغطية على ذكورية مقنّعة، يخشى أو يخجل متبنّوها الترويج لها بشكل فاقع، فنراهم يلجؤون إلى استخدام تبريرات “موضوعية” تستند إلى “الجدارة” و”الحقائق”.
لم تكن الإشارة إلى أصول فينوس الأفريقية محض مصادفة، فهي وشقيقتها الصغرى سيرينا ويليامز، المصنفة الأولى عالمياً، والحائزة على 19 بطولة غران سلام في فردي السيدات، تعرّضتا منذ بداية مسيرتهما الاحترافية في أواسط تسعينات القرن الماضي إلى قدرٍ غير مسبوق من العنصرية والذكورية، المعلنة منها والمضمرة. فسواد بشرتيهما وبنيتيهما الجسدية واختيارهما غير التقليدي للملابس واختلافهما عن السائد في رياضة لا تزال إلى يومنا هذا “رياضة بيضاء” بامتياز، جعلهما عرضةً لهذه التوأمة من العنصرية والذكورية.

لم تكن صافرات الاستهجان والألفاظ العنصرية التي أمطر الجمهور الأميركي بها سيرينا أثناء نهائي بطولة إنديان ويلز في كاليفورنيا في العام 2001، أول أو آخر حادثة عنصرية تواجهها الشقيقتان. فها هو ذا شاميل تاربيشييف، رئيس الاتحاد الروسي لكرة المضرب، يصف سيرينا وفينوس بالـ”أخوين ويليامز” أثناء لقاء أجرته معه إحدى القنوات الروسية مؤخّراً.
إذن، فإقدام لاعبة سوداء كفينوس على رفع راية المساواة الجندرية يحمل مدلولات تتجاوز بأهميتها كرة المضرب بشكل خاص والرياضة عموماً، وتقول الكثير عن الدور الذي تستطيع النساء السود والملوّنات لعبه في النضال النسوي وخاصة في الميادين التي يهيمن عليها الرجال والبيض.
وعلى الرغم من مرور ثمانية أعوام على قرار ويمبلدون بتطبيق المساواة في الجوائز المالية، ومع أن هذه القاعدة في البطولات الكبرى لا عودة عنها، فما زال موضوع “أحقية” السيدات مثار جدلٍ ليس في الإعلام فحسب بل وفي أوساط اللاعبين، فرغم أن ما تجنيه زميلاتهم من جوائز لا يؤثّر عليهم ولا يبخسهم حقوقهم، نجد بعض اللاعبين الرجال من أعتى المعادين لمبدأ المساواة ولا يألون جهداً في التقليل من قيمة تنس السيدات. وفي بعض الحالات تكون تعليقاتهم صارخةً في ذكوريتها. اللاعب الفرنسي جو ويلفريد سونغا، عزا التقلبات العديدة في مباريات تنس السيدات إلى “الهرمونات” وإلى كون النساء “غير مستقرات عاطفياً” ويفتقدن اللياقة البدنية. ما يثير الاستغراب من كلام سونغا ليس وقاحته وعدم دقته فحسب، بل كون من قاله هو أحد أكثر اللاعبين تذبذباً، حالت هشاشته الجسدية والذهنية وعدم استقرار أدائه دون ارتقاء نتائجه إلى المستوى المنشود من لاعب بموهبته وقدراته. فهل “الهورمونات” هي السبب وراء تذبذب مستوى السيد جو؟
هذا النمط الذكوري نفسه يكرّسه جزء لا بأس به من مشجّعي اللعبة (ومشجعاتها للأسف) والإعلام الرياضي الذي يتحدث عن صديقات لاعبي كرة المضرب وزوجاتهم في كثيرٍ من الأحيان كزينة مرافقة للاعب! ونجد أن الإعلام الرياضي العربي لا يزال متمسّكاً بوصف اللاعبة الروسية ماريا شرابوفا، على سبيل المثال، بالـ”باربي” أو الحسناء في كل خبر عنها، لدرجة يحسب فيها المشاهد أنها ملكة جمال أو عارضة أزياء لا رياضية. لا يوجد ضير في الإثناء على وسامة اللاعب أو اللاعبة ومظهره أو مظهرها الخارجي. تكمن المشكلة حين يصبح هذا الشاغل الوحيد فيتجاهل المعلّقون الحديث عن مهنة اللاعب أو اللاعبة. وشرابوفا تحديداً هي أبعد ما يكون عن الـ”باربي” على أرض الملعب فهي من أكثر اللاعبات إصراراً ومثابرةً، تمكنت بفضل تدريبها الشاق وروحها القتالية من الفوز بخمس بطولات كبرى وتبوّء المركز الأول عالمياً رغم موهبتها المحدودة.

لا ننكر أن اللاعبات الجميلات قادرات على جذب أشخاص غير مهتمين بالتنس لمتابعة مبارياتهن، وربما لا يكون هذا أمراً سيئاً أو حتى ذكورياً بالضرورة. نحن نعلم أيضاً، في المقابل، أن بعض متابعات كرة القدم يبدين اهتماماً بوسامة اللاعبين وشكلهم أكثر من اللعب نفسه. إلا أن المشكلة هي في التغافل عن إنجازات اللاعبات وتصديرهن على أنهن وجه وجسد جميل فحسب.
من المجحف أنه كلما صعدت لاعبتان للعب في مباراة مهمة نطالبهما بإثبات جدارة رياضة كرة المضرب النسائية كلها، وفي حين لا يُمثل الرجلان المتنافسان إلا نفسيهما، توضع المرأتان المتنافستان دائما تحت المجهر ويسارع البعض لانتقاد تنس النساء بأكمله والتشكيك بأحقية النساء بجوائز مالية متساوية بناء على مباراة سيئة واحدة أو بعض المباريات. اللاعب إذا أصيب أثناء المباراة فهذا بسبب الجهد الذي يبذله، أما إصابة اللاعبة فسببه أن النساء يفتقدن اللياقة البدنية. اللاعب إذا تذبذب مستواه أثناء المباراة فيتم تبرير ذلك بصعوبة تنس الرجال وشدة المنافسة فيه، أما اللاعبة إذا تذبذب مستواها فهذا يُنسَبُ إلى عدم قدرة النساء على تحمل الضغط أو إلى “الهرمونات” التي تحدث عنها سونغا.
هذه المعايير المزدوجة كانت حاضرة بقوة حين أعلن بطل ويمبلدون السابق آندي ماري عن اختياره للفرنسية أميلي مورسمو مدربةً له. قوبل هذا الخيار، كإعلان ماري عن نيته التصويت بنعم لاستقلال اسكتلندا، بصخب وانتقاد لاذعين في الإعلام البريطاني، ليس لأن مورسمو مدربة سيئة. في الواقع، لم يتحدث أي من الصحفيين المنتقدين لاختيار ماري عن قدرات مورسمو، بل كان مجرد اختياره مدربة امرأة مثار انتقادهم.
إلا أن ماري استغلّ إنجازه بالتأهل لأول نهائي “غراند سلام” له منذ العام 2013 للتأكيد على جدارة النساء. فبعد فوزه بمباراة نصف النهائي على اللاعب التشيكي توماس بيردخ، قال ماري أمام 15 ألف متفرج في ملعب “رود لايفر” المركزي في ميلبورن: “لقد أثبتنا خلال هذا الأسبوع أن النساء مدربات تنس ممتازات أيضاً”، معرباً عن شكره لمورسمو على شجاعتها بقبول تدريبه، وأردف كلمته في الملعب بتغريدة على حسابه الشخصي في موقع تويتر، كتب فيها: “نريد مزيداً من النساء في الرياضة”.

من المبشّر أن لاعباً شاباً بنجومية ماري يستخدم الميزة الممنوحة له كرجل مشهور ومتفوق في مجاله لمحاربة الذكورية في الرياضة. ليست الرياضة النسائية بحاجة إلى رجل كي يدافع عنها ولا يجب أن توضع في موقع الدفاع عن النفس أصلاً، ولكن وجود رجال كماري في التنس خاصة، وفي الرياضة عامة، يساعد على زعزعة المنظومة الذكورية التي تسيطر على معظم الرياضات.
لا تزال الطريق نحو مجابهة الذكورية في كرة المضرب طويلة جداً، والمساواة المادية غير كافية، مع أهميتها، إلا أن وجود لاعبات كالشقيقتين ويليامز، ولاعبين كماري، يبعث على التفاؤل في هذا السياق.
2 thoughts on “في السياسة الجندرية لـ”الكرة الصفراء””