خرافة الخندق الواحد

ليس ضرباً من الرومانسية الثورية أو الحنين المبتذل أن أقول إنني أدين بالكثير لانتفاضة الثامن عشر من آذار، وللسوريات والسوريين الذين فجّروها وساروا في ركابها وضحّوا بأمنهم وحياتهم وأحلامهم الشخصية دفاعاً عن مطالبها ومبادئها.

تعلّمت الكثير من شجاعة ثائرات وثوار سوريا، شجاعتهم في استعادة فضاء عام كان اختراقه محرّماً عليهم طيلة عقود من هيمنة الطغمة الحاكمة. تعلّمت من أناشيد التائقين للكرامة والحرية، ومن أهازيجهم في وجوه الدبابات وتحت هدير الطائرات، ومن أصواتهم وأياديهم المتشابكة وهي تحوّل المجاز إلى واقع ملموس، ومن مواصلتهم الغناء حتى بعد أن تستهدف القذائف مظاهراتهم السلميّة. تعلّمت كيف يُصرّ الحالمون بالانعتاق على إيجاد طرق جديدة وخلّاقة، يتجاوزون بها رقابة النظام التي كانت تبدو عصيّة على المراوغة، تماماً كما يصرّون الآن على تحطيم الحدود بأجسادهم ودمائهم، وعلى شقّ طرق جديدة لم يسلكها غيرهم من قبل نحو أوروبا، بدءاً بقوارب الموت المبحرة في المتوسّط، مروراً بالصهاريج التي تنقل الشوكولا من فرنسا إلى بريطانيا، وصولاً إلى الالتفاف حول القارّة عبر الدائرة القطبية.

قد يبدو غريباً أن يصدر هذا الكلام عن فلسطينيّة، ونحن الذين اعتدنا أن يخبرنا الجميع أن نضالنا وصمودنا ألهمهم وكان مَثَلَهم الأعلى، ولكن ما تعلمته من السوريات والسوريين في الأعوام الأربعة الأخيرة، وما أحدثته انتفاضة 18 آذار في وعيي وحياتي، لا يقل جذرية وتأثيراً عما منحتني إياه فلسطين منذ الانتفاضة الثانية.

أكثر ما أدين به لثورة السوريين هو تجاوز فكرة البوصلة الواحدة والوحيدة، والتجرّؤ على تحطيم أيقوناتنا النضالية، دون أن يؤدي بي هذا إلى التشكيك بعدالة القضية الفلسطينية أو التنازل عن ثوابتنا، بل بالعكس. ما تبدّل هو أن أولوية تحرير فلسطين أُضيفت لها أولويات أخرى، وأنني تمرّنت على رؤية القضية بعيون المقاومين السوريين المرابطين على جبهة الزبداني، وليس من عيوني الفلسطينية فحسب. لم يعد السجل النضالي لأي شخصية وطنية، من ليلى خالد إلى سمير قنطار، قادراً على تبرئتهم من جرم خذلان السوريين ومعاداة ثورتهم.

كان الالتزام بتحرير كامل التراب الفلسطيني وبحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وبالعداء المطلق للصهيونية، معياري الأول والأهم في الحكم على الأشخاص والقضايا والسياسات، وكل ما عدا ذلك تفاصيل وآراء سياسية، يمكن مناقشتها أو غضّ الطرف عنها باسم القضية الأولى والبوصلة الأوحد. كان يكفي تاريخ حزب الله في مقاومة الاحتلال وفي الاستمرار بمقارعته، ودوره في مدّ المقاومة الفلسطينية في غزّة بالعون والسلاح، للتغاضي عن طائفيته ويمينيته. كل هذه كانت «أخطاء» يمكن السكوت عنها ضمن المعركة الأهم ضد الاحتلال. كانت معاداة النظام الإيراني الصريحة للاحتلال الإسرائيلي كافية كي أتلعثم في موقفي من احتجاجات الإيرانيين عام 2009، تلعثماً شعر به الكثيرون ولم يدفع ثمنه الإيرانيون وحدهم بل ما زلنا ندفع ثمنه جميعاً.

ما كان ينبغي أن ننتظر حتى يشارك النظام الإيراني وحزب الله نظامَ الأسد في سفك دماء السوريين، وتهجيرهم وتدمير بلدهم، حتى ندرك أن البوصلة التي تستند إلى قمع البشر وإذلالهم وإعلان الحرب عليهم لا يمكن أن ترشدنا نحو فلسطين. وحتى لو كانت فلسطين هي وجهتها فعلاً، كل بوصلة تكفر بحرية البشر وكرامتهم هي بوصلة ضالّة ومضلّلة.

لم يكن ينبغي أن ننتظر حتى ينكر الأمين العام لحزب الله حدوث أي شيء في حمص، حتى ندرك أنه لا يمكن أن نكون في خندق واحد مع مدافعين شرسين عن الظلم والاستبداد إلا إذا حُفر هذا الخندق لا ليمهّد الطريق نحو تحرّر جمعي بل ليُماشي مصالحنا الضيّقة.

ما كان ينبغي أن ننتظر استشهاد أكثر من 400 فلسطينيّ تحت التعذيب في سجون النظام السوري، كي نخبر حسن نصر الله أن طريقه نحو القدس لا يمكن أن تلتقي مع طريقنا، فطريقه مغمورة بدماء فلسطينيّي سوريا وسوريّيها، معبّدة بركام مخيّمات الفلسطينيين التي دمّرها النظام، مملوءة بجثث أكثر من 170 فلسطينيّاً من مخيم اليرموك؛ استشهدوا نتيجة نقص الغذاء والدواء الذي منعه النظام عن المخيم في حصار مطبق عمره أكثر من عامين. «القدس» التي يتحدث عنها نصر الله ليست القدس التي نعيش فيها، فقُدسه بطاقة اعتماد تستلّها الممانعة لتثبت تفوقاً أخلاقياً في معاركها مع خصومها، وهي الآن شعار يسوّغ حرب تطهير عرقي في سوريا، ويبرّر الزج بالآلاف من فقراء الجنوب اللبناني في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل. قُدسه فيلق حربي إيراني تأسّس على القمع، وفلسطينه فرع أمني قتل وعذّب من المعتقلين الفلسطينيين ما يزيد عن كل ضحايا القتل والتعذيب في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

وما كان ينبغي أن يستمر بعضنا، تحت أي ذريعة، مبدئيةً كانت أم براغماتية، في محاولة التبرير لما يقوم به حزب الله، أو في الفصل بين النظام السوري وحزب الله وتصوير الأخير على أنه ضحية جيء بها لتشارك في هذه الحرب.

لا شك أن ما رُوّج في بداية الثورة السورية، عن مشاركة مقاتلي حزب الله والحرس الثوري الإيراني في قمع المظاهرات، لم يتعدَّ كونه هذياناً طائفياً أرادت به فئات من المعارضة ومموّليها فرض الصبغة الطائفية على الثورة. ورغم المبالغات التي أُلصقت ببدايات تدخل حزب الله، لم يعد هناك، منذ سنتين على الأقل، أي مجال للتشكيك بأن هذا الحزب شريك مباشر في الحرب على السوريين، بل وأنه، مع النظام الإيراني، أصبح يشكّل قوة احتلال وغزو. وإن كان من الممكن «التساهل» مع عداء حزب الله الخطابي للثورة السورية، تلك الثورة التي أنكر وجودها قبل التسليح والعسكرة والتطييف، ثم ليعود بعد ثلاثة أعوام ويدّعي أن «الثورة السلمية انحرفت عن مسارها»، إن كان يمكن التساهل مع هذه الانتقائية والازدواجية في معايير من يناصر ثورة البحرين ويعادي ثورة سوريا، فكيف يمكننا الاستمرار بالتصالح مع حزب قتل وهجّر السوريين في القصير وحمص ويبرود والزبداني والنبك، وتعهّد أنصاره بـ«تطهير» القلمون وزرعه بالبطاطا؟

قد تكون النفعية ونظرية التقاء المصالح المبرّر الوحيد المتاح، ولكن علينا أن نتذكر أننا، في حال تبنّينا هذا المبرر ودافعنا عن حزب الله وإيران بسبب تحالفهما مع المقاومة الفلسطينية، لن نملك حينها أي جدارة أخلاقية لانتقاد المعارضة السورية المسلّحة بسبب مصادر تمويل لا نتفق معها، أو بسبب تحالفات نسجتها مع أنظمة أو قوى نعاديها، إذ لا يمكننا تبرير البراغماتية والدفاع عنها حين يتعلق الأمر بنا وبمصالحنا، ثم تخوين من يفعل الأمر ذاته في الجهة المقابلة.

ليست هذه المرة الأولى التي اضطُر فيها الفلسطينيون للمفاضلة بين الدفاع عن المضطهدين والدفاع عن نظام يدّعي مناصرتهم ويزعم معارضة إسرائيل، وقد يكون من المجحف «لوم» شعب يرزح تحت الاحتلال على تبنّيه توجّهات نفعيّة، كتأييد فئة وازنة منه لغزو الكويت، وكاستمرار الكثير من أبنائه بالهتاف باسم صدام حسين حتى بعد قتله آلاف الأكراد في مجزرة حلبجة.

ولكن تبنّي هذه المصالح النفعية، وهنا أقصد الناس، لا القيادات والنخب، لا يقلّل فقط من مصداقية نضالنا ويناقض القيم التحرّرية التي ينبغي أن يرتكز إليها، بل أيضاً يضعف تضامن المضطهَدين معنا. نحن لا يمكننا مطالبة المظلومين والثائرين بدعم قضيتنا إذا نحن لم نبادلهم الدعم، ولا يمكننا لوم المضطهدين والثائرين على التحالف مع قوى قمعية واستعمارية إذا نحن تحالفنا مع قوى تقمعهم وتحتلّ أرضهم.

لا شك أن هنالك مشروعاً لم يعد خفيّاً يهدف لتطبيع العلاقات بين السوريين والاحتلال الإسرائيلي، وفي تصوير الاحتلال الإسرائيلي كدولة إنسانية «عادية» تُسعف الجرحى السوريين، ويقدم أفراد وجماعات منها الدعم الإنساني والطبي للاجئين السوريين في تركيا. لا شك أيضاً أن هنالك محاولات لاختراق الوعي السوري، المعادي بفطرته لإسرائيل، وهي محاولات تتخذ من الإغاثة الإنسانية غلافاً لها. كما أن من الواضح أن أمثال كمال اللبواني، الذين يتجرؤون على المجاهرة بصداقتهم مع إسرائيل، سيزيدون.

من الضروري والملحّ مقاومة هذا المشروع، ولكن مقاومته لا تتأتى بتخوين السوريين والوقوف مع النظام وحلفائه. مقاومة هذا المشروع تبدأ بالرفض الواضح والصريح لاستخدام هذا النظام وحلفائه قضيتنا لتبرير حربهم على السوريين، ثم إدراك أن المسؤول الأساسي والرئيس عن إضعاف القضية الوطنية هو النظام. سيكون من غير الإنساني، مثلاً، لوم السوريين الذين يتعرّضون للقصف اليومي من قبل طيران النظام إذا هم احتفلوا باستهداف طيران الاحتلال الإسرائيلي للجيش الذي يقتلهم ويقصفهم ويهجّرهم منذ عدة سنوات. الملوم هنا ليست الضحيّة التي يمكن أن تفرح بأي صفعة يتلقّاها جلّادها، بل الجلّاد الذي أجبر الضحية على ذلك، ورد على كل غارة إسرائيلية استهدفته بقصف المدنيين السوريين في الغوطة وحلب وإدلب ودرعا.

كما سيكون من غير العادل أن نخوّن شعباً دافع عن القضية الفلسطينية كأنها قضيته، ليس بمعزل عن النظام فحسب بل في أحيان كثيرة رغماً عن أنفه.

قد لا يمكننا التعويل على حتمية استمرار هذا الدعم في ظل النكبة اليومية التي يرتكبها النظام السوري بحق السوريين، ولكن يتحتّم علينا ألا نكون شركاء للنظام السوري وحزب الله والنظام الإيراني، ولا وقوداً لدعايتهم الإعلامية، ولا ورقة توت تغطّي حرب الإبادة التي يمارسونها على المجتمع السوري.

2 thoughts on “خرافة الخندق الواحد

  1. تحياتي يا بدور

    من جهتي أشكّ بوجود “مشروع” يهدف لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ما لا أشك فيه هو وجود شرائح واسعة من السوريين، ليسوا جميعاً من الكرد، يؤيّدون السلام مع إسرائيل ولكنهم لا “يتجرأون” كما يتجرأ كمال اللبواني، ومن الضروري والملحّ عدم تخوين هؤلاء لمجرد رأي غير مركّب حصلوا عليه في غمرة كل هذه الأشياء
    القول إن الشعب السوري تبنّى القضية الفلسطينية بمعزل عن النظام بل رغماً عن أنفه، أظن أنه نوع من الدعاية الفجّة
    النظام ليس خائناً للقضية الفلسطينية حسب التعريف الكلاسيكي للخيانة، والشعب ليس مؤيداً للقضية الفلسطينية حسب التعريف النضالي للتأييد، والنظام البعثي-البرجوازي ليس كتلة واحدة والشعب السوري تاريخياً وجغرافياً يستحيل حصره بشكل أنثروبومورفي في كلمة من ثلاثة أحرف، والمسألة أن المسألة أعقد من كل هذه التعميمات

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s